على حافة الانهيار.. إيهود باراك يعلن وصول ديموقراطية إسرائيل إلى نقطة "اللاعودة"
على حافة الانهيار.. إيهود باراك يعلن وصول ديموقراطية إسرائيل إلى نقطة "اللاعودة"
في تحذيرٍ غير مسبوق في حدّته، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك أن "إسرائيل" قد بلغت مرحلة الانهيار الداخلي، قائلاً إنها وصلت إلى "نقطة اللاعودة"، حيث لم تعد الإجراءات الاعتيادية كافية لإنقاذها من التفكك السياسي والمجتمعي.
وجاءت تصريحاته في مقال بصحيفة "هآرتس" العبرية، حمّل فيه حكومة بنيامين نتنياهو مسؤولية "تمرد على القانون" وتدمير أسس النظام الديمقراطي، داعيًا إلى عصيان مدني شامل يقود إلى إسقاط الحكومة.
انقلاب على فكرة الدولة
يرى إيهود باراك أن إسرائيل تقف أمام مفترق تاريخي حاسم: إما أن تبقى "دولة يهودية صهيونية ديمقراطية" تحترم مبادئ إعلان الاستقلال، أو تتحول تدريجيًا إلى "نظام ديني عنصري واستبدادي"، يتعارض جوهريًا مع فكرة الصهيونية نفسها التي قامت، كما يصف، على قيم الدولة الحديثة والشرعية المؤسساتية.
ويرى أن ما تشهده البلاد ليس مجرد صراع سياسي، بل هو انهيار للنظام المؤسسي، حيث تعمل الحكومة على إضعاف المحكمة العليا، وتقويض استقلال السلطة القضائية، وزرع الانقسام بين "اليهود العلمانيين والمتدينين"، وبين المركز والأطراف، ما يهدد وحدة المجتمع الإسرائيلي ذاته.
عصيان مدني أم انقسام داخلي؟
باراك دعا إلى خطوات غير مسبوقة في الخطاب السياسي الإسرائيلي الحديث منها: تعليق جلسات الكنيست من قِبل قوى المعارضة، ونصب خيام احتجاج حول مبنى البرلمان، ودعوة الجمهور إلى إضراب مفتوح، يشارك فيه القطاع الصناعي والتكنولوجي والأكاديمي، وإشراك حركات الشبيبة والكيبوتسات والنقابات العمالية في "إغلاق البلاد بالكامل" حتى إسقاط الحكومة.
هذا الطرح يُعبّر عن تزايد الإعتقاد داخل النخب الإسرائيلية بأن آليات العمل الديمقراطي التقليدي لم تعد كافية في مواجهة ما تصفه المعارضة بـ"انقلاب نتنياهو الدستوري"، خاصة بعد محاولاته السابقة لتقييد سلطة القضاء وتحصين الحكومة من المساءلة القانونية.
الشرخ المؤسسي العميق
في أكثر مقاطع مقاله حساسية، طالب باراك النائب العام بإعلان أن رئيس الوزراء "غير صالح للمنصب"، مستندًا إلى بنود قانونية تسمح بعزل المسؤولين إذا تعارضت أفعالهم مع المصلحة العامة أو شكلت تهديدًا للنظام.
كما دعا رئيس جهاز "الشاباك" نفسه لإعلان عدم أهلية نتنياهو، محذرًا من أن استمرار "رجل مطلوب للمحكمة الجنائية الدولية" على رأس الحكومة يمثل خطرًا مباشرًا على شرعية الدولة أمام العالم.
هذه الدعوة تمثل كسراً للتوازن التقليدي بين المستويين السياسي والأمني في إسرائيل، وتكشف عن حجم الفوضى الداخلية التي تعصف بالبنية القيادية للمؤسسة الحاكمة.
تأتي تصريحات باراك في سياق تصاعد المواجهة بين معسكر نتنياهو وتحالف المؤسسة القديمة، المكوّن من قادة الجيش السابقين، والنخب القضائية والأمنية، والطبقة الاقتصادية العليا التي ترى أن نتنياهو، بتحالفه مع اليمين الديني المتشدد، يقود إسرائيل إلى عزلة دولية وانقسام داخلي خطير.
وقد وصف باراك الحكومة بأنها "متمردة على القانون" و"فاقدة للبوصلة الوطنية"، متهماً إياها بتمويل الحلفاء الأيديولوجيين على حساب مؤسسات الدولة، واستنزاف الخزينة العامة، وخلق بيئة تسمح بتآكل مؤسسات الضبط والمساءلة.
أزمة هوية أم انهيار مشروع؟
يرى باحثون في "هآرتس" و"يديعوت أحرونوت" أن ما يصفه باراك ليس أزمة سياسية عابرة في إسرائيل، بل صراع وجودي داخل المشروع الصهيوني نفسه، فمنذ قيام الدولة عام 1948، قامت الصهيونية على توازن هش بين الطابع الديني والطابع الديمقراطي. ومع صعود اليمين الديني المتشدد، بدأ هذا التوازن بالانهيار، لتتحول إسرائيل تدريجيًا إلى كيان ديني-قومي يقدّس الأرض على حساب القيم الديمقراطية والعقلانية المؤسسية.
ويحذر مراقبون من أن إسرائيل تدخل مرحلة مشابهة لتلك التي سبقت تفكك أنظمة أخرى في التاريخ المعاصر، حين تآكلت مؤسساتها الداخلية من الداخل قبل أي تهديد خارجي.
يختتم باراك مقاله بنداء رمزي لكنه بالغ الدلالة: "الوقت للعمل الآن.. وإذا لم تتحرك القوى المؤمنة بالديمقراطية، فسيُكتب لمستقبل إسرائيل مصير آخر".
بهذه الكلمات، لا يتحدث باراك فقط عن أزمة حكومة، بل عن مستقبل السردية الصهيونية ذاتها: هل تبقى إسرائيل دولة قانون حديثة، أم تتحول إلى نظام مغلق يقوم على الهوية الدينية والإقصاء السياسي؟
في لغة السياسة الإسرائيلية، هذا يعني أن الشرعية الأخلاقية للمشروع الصهيوني أصبحت محل تساؤل من داخلها، لا من خصومها في الخارج.
ما بين دعوة باراك إلى العصيان المدني، وتصاعد الانقسامات داخل مؤسسات الدولة، يلوح مشهد غير مسبوق في تاريخ إسرائيل السياسي متمثلاً في أزمة هوية وطنية تتجاوز الخلاف الحزبي، وتآكل الشرعية المؤسسية في ظل اتهامات بالفساد وخرق القانون وكذلك تصدع الثقة المجتمعية بين المكونات اليهودية نفسها.
التحذير من "نقطة اللاعودة" لا يبدو مبالغة لغوية بقدر ما هو تشخيص لانهيار النموذج الإسرائيلي الكلاسيكي الذي وُصف طويلاً بأنه "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط".
وإذا كانت إسرائيل تواجه اليوم خطرها الأكبر، فهو ليس في الخارج، بل في قلب مؤسساتها نفسها، حيث تتآكل الدولة من الداخل تحت ثقل أزماتها الوجودية.










